بيان الكتل الكردستانية في مجلس النواب العراقي حول الذكرى السابعة والعشرين لمجزرة حلبجة

بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى في محكم كتابه:
“ولاتحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء”
أيتها السيدات والسادة إن يوم 16/3/1988 كان يوماً شاهدا ومشهوداً.. ففي مثل هذا اليوم وقبل سبعة وعشرين عاماً أصبح ربيع كردستان خريفا، وتساقطت الأرواح البريئة، واختلطت دماء خمسة آلاف شهيد بصرخات وآهات وأنين عشرة آلاف من الجرحى، وهام سبعون ألفا من الناس على وجوههم كأنهم جراد منتشر، تلاحقهم نيران الغدر والوحشية والهمجية العنصرية، تطاردهم وتبحث عنهم بين الوديان والجبال لتقضي عليهم طائرات دولتهم تدك مدينتهم أسراباً أسراباً، تفرغ حمولة القنابل والصواريخ والنابالم على رؤوس الأبرياء ساعات طويلة، ثم جائت بأطنان من غازات سامة مختلفة بين خانقة وحارقة ومعمية للبصر ومجنة للعقل .. ههنا عشرات صاروا أشلاء تحت أنقاض بيتهم، وهناك عوائل بالعشرات بل المئات والآلاف اختنقوا وآخرين احترقت أجسادهم بينما هناك مئات آخرون أصابتهم نوبة من الهستريا وهم ينتظرون دورهم في الموت البطيء المؤلم، وأما أؤلئك فمئات فقدوا قدرتهم على الرؤية يساقون كأنهم قطار الواحد يمسك بيد التالي له، وتلك مئات الأطفال يهيمون على وجوههم وهم يصرخون بحثاً عن آبائهم الذين ضيعوهم بعد أن نزلت الطائرات عليهم فتواروا بين الزحام .. وتلك آلاف من الحيوانات والطيور الأليفة وغير الأليفة قد أخذوا مواقعهم في الطرقات والبيوت وقد انتفخت أجسادهم واحترقت لتكمل مشهدا مرعباً قل أن رأت البشرية مثلها في مكان … وهكذا دخلت المدينة بإجرام المجرمين في التاريخ كأكبر مجزرة للسلاح الكيمياوي في العالم كما أن هيروشيما أكبر مجزرة نووية.
وقبل هذه الجريمة بسنة واحدة أقدم ذلك النظام الفاسد المستبد على قتل عشرات الناس في المدينة نفسها ودفن بعضهم أحياء، وتدمير ثلث المدينة ونسف بيوتها ثم عاد النظام إلى جرائم الحرب بنسف كل المدينة والمدن المحيطة بها من سيروان وخورمال وهورامان وشهرزور وسيدصادق … وحرق بساتينها وتجفيف مياهها وتدمير بيئتها وزرعها بالألغام والأسقام والآلام، علماً أن هذه المنطقة تحوي إرثا حضارياً وآثارا مهمة للبشرية جمعاء، وتعتبر من أكثر مناطق العراق جمالاً وثراء، وأن المدينة وتلك المنطقة كانت حاضنة العلم الشرعي، والعرفان المعنوي، والرشد السياسي، والأدب والشعر، والفلسفة، والثقافة، والفن، وكانت عشرات من مختلف دول المنطقة وآسيا في النصف الأول من القرن المنصرم يفدون إليها لطلب العلم واحتضنت تلك المنطقة في هورامان قيادة الطريقة النقشبندية في العالم لعقود .. وكل ذلك لم يشفع لها في أن لا يستبشع نظام (الأمة الواحدة والرسالة الخالدة) في تدميرها وقتل أهلها وهتك حرماتها، وصدق الله العظيم فيهم حين قال: “ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ” (البقرة الآية 204- 205(
أرادت هذه الجريمة تركيع شعب أبى أن يركع إلا لله، لم تقصد فعلا أجساد الناس بقدر ما كانت تقصد همم الناس وقمع أصوات وكسر عزائم نفوس أبية كانت تشمخ كجبال كردستان وأبت أن تصمد حتى تنتصر شهادة أو تنتصر تحريراً وصدق الشاعر العربي المبدع الجواهري حين قال:
شعب دعائمه الجماجم والدم … تتحطم الدنيا ولا يتحطم
أيها السيدات والسادة يجب أن لا ننسى أن حلبجة لم تخنق بالغاز فقط وإنما بالصمت المخزي للمجتمع الدولي وشركات سلاح الدول الكبرى تلك التي لا زالت المصالح هي التي تقودها لا القيم، وساهمت في خنق شعبنا ثقافة الخنوع واستمراء الذل والاستعباد والتصفيق للطغاة والتسبيح بحمدهم، تلك الثقافة التي تؤكد لنا الحكمة القائلة: أن الطغاة لايصنعون السكوت بل السكوت هو الذي يصنع الطغاة.
وشنقت مدينتنا يوم شنقت قبلها مدن : (شيَخؤسان وباليسان وقةرةداغ وجافايةتي وطةلي بازي ودؤلَى مةلةكان وهيران) … وعشرات المدن الكردستانية وغير الكردستانية التي رشت بالأسلحة الكيمياوية أو قصدت بجرائم الإبادة الجماعية قبل حلبجة وبعدها.
ويؤسفنا اليوم أن عقابيل تلك الجريمة وأوزار ذلك النظام المستشري في ثنايا هذا المجتمع في ربوع العراق ليس باسم البعث القومي بل باسم العبث الديني الطائفي، تحول نصوصنا المقدسة المباركة المحيية إلى أداة لصناعة الجهل والموت والتخلف والانحطاط والوحشية، وتستهدف حياتنا وحضارتنا وأمننا وتعايشنا وإرثنا الحضاري وثراءنا الثقافي والمذهبي، ومن هنا وجب أن نشد على أيدي أولئك الأبطال الميامين الذين يقدمون أرواحهم لمحاربة هذا الشر الزاحف على المنطقة من أبناء البيشمركة والجيش الوطني والحشد الشعبي وأبناء العشائر، وندعوهم للتعبير عن القيم الإسلامية والإنسانية الحقيقية الداعية للسلام والأمن والتعايش واحترام التعددية والالتزام الكامل بسيادة القوانين وأخلاق الحرب والفروسية.
وختاما، ولأن هذه الجريمة لم تنته فصولها بل هي مستمرة في أكثر من شكل، فهناك جرحى لازالوا يئنون، وبيئة تعاني التلوث، وبنى تحتية بحاجة للبناء، وضحايا بحاجة للتعويض والسلوى، وأطفال مفقودون تبحث عائلاتهم عنهم … فإننا نقدم بين يدي مجلس النواب جملة من مطالب أهل تلك المدينة الشهيدة وتتلخص في الآتي:
1.استكمال الحكومة الاتحادية كافة الإجراءات والمراسيم المتعلقة بتحويل المدينة إلى المحافظة التاسعة عشرة في العراق وجعلها عاصمة السلام بناء على ما أقرته برلمان وحكومة إقليم كردستان.
2..2الاستمرار في تخصيص جزء من الموازنة الاتحادية السنوية لحين الانتهاء من إعادة إعمار المدينة وبناء البنية التحتية اللازمة فيها وبما ينسجم مع تحولها لمحافظة.
3.تعويض الضحايا وأسرهم وإلزام الحكومة الاتحادية ووزارة المالية باستكمال مشروع قانون تعويض ضحايا النظام السابق والذي تم إرساله كمقترح من لجنة الشهداء والضحايا من الدورة السابقة بتأريخ 18/9/2013.
4.فتح معبر للتجارة الدولية والتنقل بين حلبجة والجمهورية الإسلامية المجاورة.
5.الإسراع بإرسال الجرحى الذين لا زال البعض منهم يعاني ويغالب المرض للعلاج خارج العراق على حساب الحكومة الاتحادية ونفقتها.
6.التزام الحكومة العراقية ومجلس النواب بتحريك ملف القضية في المحافل القضائية الدولية للاعتراف بها كجريمة إبادة للجنس البشري (جينوسايد) بعد أن اعترفت الحكومة والمحاكم العراقية مشكورة بذلك وأقرته.
7.مفاتحة مجلس شورى الجمهورية الإسلامية الإيرانية وحثه على إصدار تشريع أو أي آلية أخرى فيها من العقوبات والمكافئات ما يضمن وصول أكثر من ثلاث وستين عائلة سجلت طلبات ولازالت تبحث عن أطفالها المفقودين أثناء الواقعة، أؤلئك الذين ربما تبنتهم وآوتهم بعض العائلات الإيرانية الكريمة لعدم التعرف عليهم وقتها، وفعلاً حدثت حوادث تؤكد صحة تلك الفرضية ولو جزئياً.
8.ندعو مجلس النواب لحث الحكومة العراقية على الانضمام إلى معاهدة روما المشكلة للمحكمة الجنائية الدولية لتسهيل محاكمة ومعاقبة كل من تسول له نفسه أن يعبث بأمن الناس وأرواحهم
وفي الختام نسأل الله تعالى أن يجعل هذا البلد آمنا مطمئنا ويرحم جميع شهداء العراق، وندعو السادة أعضاء المجلس للتصويت على هذه المطالب وإقرارها وقراءة الفاتحة على أرواح الشهداء.

تمت تلاوته في مجلس النواب بتأريخ 16/3/2015


WP2Social Auto Publish Powered By : XYZScripts.com